Saturday 30 January 2016

صياح في بهو ولي العهد

إلى صاحب السلطان، شامل الحكمة ومالك الأمر،
تحية أخيرة، وبعد..

كلمات هي الأخيرة ستصلك بعد أن فات الأوان. انقلب الناس عليك يا ولي الأمر، ما لم تعد تملك الرأي في الولاية، فقد أدرك الناس ما قد نسجناه حولهم من وهم، وما قد بعناه لهم من أمل تعلم أنت قبل الباقين أنه سراب.

أخبرتك سابقًا عن كلب الفلاحين، من التفّ حوله أمراء القرى ممن غضبت عليهم وتركتهم خشية أبيك. أخبرتك سابقًا أن سحره لم نمر عليه من قبل. أعلمتك أن كلامه يؤثر آذان من استمع ويؤسر قلوب من اقتنع. أعلمتك أن لا يجب علينا أن نواري خطره الذي داهمك على غير غرة.

يا صاحب الشأن، قوي الذراع،

اتلفك غرورك فلم تعد تقدر على تمييز الأمور. حاصرتك غرائزك فلم تقوى على رفع هامتك في بهوك العظيم. أخذت الاستهزاء بالناس سوط تجلد به نفسك. أرسلت ضباعك مرة، وخيراتك مرات، فلم يستجب الناس وظل كلب الفلاحين هو صاحب الكلمة في ضمائر الرعية.

ضعفت يا ولي، وانكسرت شوكتك.

وثقت في من نحتوا نحرك منذ زمن ولم تعلم. سمعت لمن باعك قبل أمد ولم تفهم. اتخذت من انقلب عليك درعًا أجوف. ضعفت يا ولي بعد أن استكبرت.

اعلم جيدًا أن الأمور ستنقلب، وأن الحال تبدّل، وأنك آخر نسلك لا محالة، وأن ظلمك قد غرب، وأن استعلائك قد انتهى. صغت أنت القيود بحكمة مهلهلة. وضعت أنت الأكلال حول عنقك. سأم الناس منك، عامّهم وخاصتهم، ولم تعلم. انتهى زمنك يا ولي، وراح ملكك يا سلطان.

عرفتني يا حكيم كحاكم إمارتك المطيع، وصوتك الذي لم يخالفك في كلمة، ولم تعرفني أنا من طعنك منذ زمن، وقضى على استعلاءك، وحفر نحرك قبل الباقين. أنا من فتت ملكك يا مولاي، وهدم عرشك، وصاغ بالزمن أساور الحديد التى ستُعلَّق عليها قبل أن تصلك هذه الرسالة. أنا من قدرت له الفرصة كي أنزلك من عرشك، وأن أسلبك ملكك، ومن جعل الحسرة فراش لا تقوى على الاتكاء عليه.

سأرى وجهك بعد وصول مسيرة الجموع، وستراني في مقدمة المسير. سأوطئ رأسك من شرفتك البارهة، وسأسمعك بنفسك حصاد الذل الذي أذقته لنا.

ستعلمني حين ترى، وسيسمع الناس صياحك في بهو ما اقتربنا منه قبل ذلك.

ستموت.

خادمك العظيم، أمير الوحي،
كلب الفلاحين

*رسالة والي عكة لأمير المؤمنين، عثر عليها في قافلة تنقيب الأمم المتحدة عام 1985، بمدينة حمص. حفظت في متحف الفن الإسلامي، القاهرة*

أبو البنات

تعال أوصلك لحد البيت، انت خدمتنا طول عمرك
ركبت عربية وحيد، زميلي في الشغل، أو كان زميلي في الشغل.. وقفنا كتير في زحمة صلاح سالم، قعد يرغي زي عوايده عن بيته ومراته ودوشة العيال. اليوم كان تقيل عليّ من كتر الناس اللي سلمت عليهم، وكلامهم عن هوحشهم ازاي بعد ما طلعت من المعاش. النهارده كان آخر يوم ليّ في الشغل بعد عشرين سنة في الشركة.
رئيس قسم المحاسبة في شركة بترول، على المعاش. فكرت أغير اليافطة النحاس على يمين باب البيت فوق الجرس.
بعرف إني وصلت البيت لما اسمع صوت مفاتيحي، بترن في على السلم ولا كإنها زفة بلدي. طول عمري بحب المفاتيح الكتير ومبتضايقش من كترها.
طول عمري كان نفسي أعمل مفتاح النور جنب الباب وافتحه أول ما ادخل الشقة، بس الله يسامحه الكهربائي اللي نسي يعملها وكسلت أعدّل البيت بعد كده.
مشيت الخمس خطوات بتوع كل يوم، فتحت النور وعيني جت ع السفرة الفاضية، النيش البني، وصورتي المتعلقة ع الحيطة لما كان عندي شنب وشعر على راسي.
لسه خشب الأرض بيزيّق كل ما امشي عليه، زي باب التلاجة لما يتفتح. غيرت هدومي، وطلعت في الصالة اتفرج ع التلفزيون بعد ما فتحت اللابتوب وقعدت في ركن الصالة اليمين.
كل ساعات البيت رنّت في وقت واحد عشان تفكرني إن الساعة حداشر ولسه البنات مرجعوش البيت..
الله يجازي وحيد، لولا إنه عرفني ع السايت إياه كان زماني فضلت كل ليلة بكلم نفسي، بس الحمد لله بقيت كل يوم بكلم ناس معرفهاش، نقعد نرغي في أي كلام، وهما فاكرين إن لسه عندي أربعين سنة.
سامر نجيب حنا، أربعين سنة، مهندس بترول إصابته في الموقع خلته يتنقل في الإدارة بعد ما عمل فلوس حلوة من الخليج.
نص ساعة وكانت مي بتبفتح الباب. عدت بسرعة، وموقفتش غير لما نادتها. ازيك؟ واتطمنتي على اختك؟ سؤالين ردهم بيكون بإشارة وهمهمة.
نمت يومها الساعة اتنين الفجر، كان عندي صداع وحاسس إني محتاج أنام. رتبت الصالة وعدلت فرش الكنبة. طفيت النور ودخلت أنام...
-----
لسه بستنى صوت المترو لما يعدّي زي العيال. مي بطلت تعمل لي الفطار من سنين، من بعد ما اتخرجت وشغلها في البنك بقى واخد وقتها. شغلت الراديو، وعملت كوباية الشاي اللي قبل الفطار. أول يوم يعدّي عليّ وانا عارف إن مفيش حاجة مستنياني. دفعت فواتير النور والكهربة، مفيش شغل متأخر عليّ ولا ميزانية متقفلتش، ولا بنت عايزة مصاريف مدرسة.
حتى صداع أمهم ارتحت منه من بعد ما ماتت، ولو إني ساعات باشتاق له أيام الأجازة.
اتفقوا الساعات إنهم يقولوا لي إن الساعة جت اتنين الضهر في وقت واحد. البيت بيتملي فجأو والدوشة تخلص في دقيقة. مسكت الأجندة اللي فيها التليفونات وكلمت قرايب مراتي، واللي لسه عايش من قرايب أبويا. سعاد وتريز لسه بيتخانقوا كل يوم، ومتسليّن بالكلب الابيض اللي عندهم.
متفقتش الساعات إنهم يتكلموا بعد كده، الوقت بيعدّي ببطء زي متولّي بتاع القهوة أيام الشغل.
نزلت القهوة أشرب حجرين على كوباية شاي تانية. محدش فاكرني هنا.
عمرك اتسرقت قبل كده؟ حسيت بجيك فاضي فجأة وساقعة مكان ما محفظتك كانت موجودة؟
أنا اتسرقت! شغلي اتسرق، وبيتي فاضي وبناتي مش معايا، مفضلش معايا غير صورتي مع ال3 بنات وأمهم. اللي اتجوزت واللي سافرت، واللي كإنها عايشة في لوكندة. محدش فيهم رفع سماعة التليفون يطمن علي بعد أول يوم ع المعاش. محدش فيهم مقدر إني فنيت نفسي في الشغل عشان خاطرهم. كل اللي هاممهم شكلهم وخروجاتهم واصحابهم اللي هيسيبوهم ولا هينفعوهم بحاجة لما يكبروا شوية.
دقة قديمة، وانت مش فاهمنا، وانت متعرفهمش.. 3 سكاكين بيرشقوها فيّ كل ما نتخانق...
عمري ما قلتلهم الاسطوانة المشروخة بتاعة "وانا بعمل كل ده لمين؟" لأ، أنا كنت بعمله لنفسي، وليهم. هما محتاجين الفلوس اللي كانوا بيصرفوا منها، وهما محتاجين البيت اللي عايشين فيه، وهما محتاجين السفرية بتاعة كل سنة.
أنا اللي محتاجهم دلوقتي، والنتيجة إني مش لاقي غير صوت كركة المية والكلاكسات اللي قاعدين معايا.
--------
أربع أسابيع ع الحال ده. دقني طولت، وهسيبها كده. وضبت الشنطة وركبت عربيتي، وطلعت على اسكندرية. لقيت إعلان كانت مي رامياه على حفلة هناك. اتفقت مع واحده عرفتها من السايت إننا نتقابل هناك ونحضر الحفلة سوا. عرّفتها إني ستنين سنة مش أربعين، عرفتها إني محاسب مش مهندس، وعرفتها إني أبو البنات، وسبت البنات وسبت عيشتهم.
فلوسي دي بتاعتي، هصرفها عليّ، البنات هيعرفوا يتصرفوا، مفضلش غير مي اللي لسه متجوزتش بس شغلها في البنك بقا ضهرها.
سبتهم، وسبت البيت..
طلعت اسكندرية، شفت البحر، وسبت اللي اتفقت معاها..
أنا هعيش لوحدي هنا، هبتدي حياتي من تاني..
سامر نجيب حنا، كنت مسافر، ولسه راجع من بره..

Sunday 2 August 2015

بيت له منزلة

كعادة أيام الآحاد، تطل عليّ بدوي صامت، فارغ، تاركة لي مساحة غير مرغوبة فيها من فضاء غاب عنه النور، تاهت في جنباته التفاصيل. كعادة من اخترتهم، غابوا عن هذا اليوم، كما فعلوا في كل حين، لا لشيء غير أني غيّبتهم، تارة شفقة عليهم، وتارة أخرى حسرة شخصية.
حقًا لا أدري إن كانت الوحدة اختيار، قدر، أم مصير محتوم. أجذب الناس عنوة في تفاصيل يومي هربًا من فراغه، وأسرع الخطى بعد ذلك متسترًا في نظرات حائرة بين حزن وحيرة. أسرع الخطى نحو بيوت طالما عرفتها، بما يسكن داخلها، غير أني لا أقدم على فتحها.. أجري نحوها حتى تتقطع أنفاسي، وتتقطع أوصالي بين الحقيقة والذكريات.
كل باب موصود، مفتاحه في يدي، آبيًا أن أفتح أيًا منهم؛ فقد بذلت من الجهد ما لا أستطع رصده في إخفاء ما بالداخل، بآثار من مروا من هنا، وذكريات من كانوا هنا، وآمال لمن تمنيت أن يتواجدوا، ولم يأتوا هنا، بين من طاءت أقدامهم وعبروا بين أغوار الزمن كمن عبر من غيرهم.
يسكن اليوم داخل نفسي هدوءًا غير مريح، أترجل بين بيوتي، مارًا بما كان.

بيت أول: البيت القديم
أكبر البيوت، أكثرها ظلمة، أكثرها غرفًا بما يحتويه من علامات. مستعيرًا أنماط الأفلام القديمة، أصبغ عليها بهاء قصور أحد بارونات زمن بال وبقيت آثاره مذكرةً إيانا بمصادر رعبنا من المجهول.
بيت قد حوى كل أخطاء تعلّم أجيال قد ظنت في نفسها الفطنة، لكن قد غلب عليهم الاستغراق في مساعٍ لا تفهمها أجيال قد تلت عليهم، غير مبالين، نحن، بما حصدوا، وغير مقدرين أي جهد قد بُذل.
قديمًا، كان هذا البيت هو أكثرهم في توفير الفرح والألفة.
باب عظيم، يدق أعناق من يحاولون تغييره. باب كبير، أخفيت مفاتيحه كي يظل محافظًا على قدره ومكانته. باب مخيف، أهرب هلعًا كلما حاولت، أو حاول الآخرون، الاقتراب كمحاولة جديدة للتصالح معه.
كعادتي، كما أفعل الآن، أتهرب من الحديث عنه بطي عنق الكلم، فلا أقوى على مسه الآن، حتى حين..

بيت ثان: بيت صغير
أرى أن الزهور مبهجة، غير أنها ليست جميلة بذاتها. ألوان تتناسق فتضفي نغم حولنا، وطبيعتها غير المصطنعة، هي  ما يجعلنا متمسكين، مهتمين، وحريصين على مراعاة جمال لسنا صانعيه، زادته صدفة اللقاء عبير غلب على أسرار الزمن.
غريب أمر أن صورة البيت الصغير تكون دائمًا حرة، مستقلة، فيها إعلان عن سيطرتنا على هذا البيت الخشبي الصغير وسط المساحة الخضراء التي تحتويه.


مجروحًا من البيت القديم، سعيت هربًا في بناء ذلك البيت كيفما يحلو لي. صغت خيوط أحلامي في ذلك البيت، متمنيًا أن أجد فيه كل مشاهدات الطفولة، وأحلامها الصغيرة. أرض وسقف خشبي، من أضلع متينة تريح من بالداخل. على الجانب الأيمن بعد الباب غرفة تطل منها المكتبة كالبطلة في منتصف الحائط الرئيسي، ولا ينير هذه الغرفة غير نور شمس خفيف يحمل في روحه هدوء يبحث عنه الكثير، ومَوقِد بطراز تقليدي قديم، ينشر الدفء بإشعال الحطب فيه. لا وجود لكرسي الكبار مرتدي الأرواب كما الأفلام القديمة. غرفة طعام لأربع أشخاص، مفتوحة على بقية البيت. ركن بعيد قد امتلئ بمتعلقات زائري البيت، كي يكون فيه جزء منهم.
موسيقى السبعينات تدور في خلفية الأيام هناك، مارة على صور ألتقطها بين أيام عمري.
بيت وحيد لم يطأه أحد، رغم المحاولات، فلا أحد استحق، أو لم أجد في نفسي التلقائية التي أبحث عنها بعد. بيت فارغ أكاد أن أصرف النظر عنه، بلا رجعة، لكن تظل صورته تناور بين أقرانها، محاولة إيجاد فرصة.

بيت أخير: بيت مفقود
بين حطام ذكريات قد مضت، صار البحث من مأوى هو أساس مضي الأيام. أترجل بين الحين والآخر باحثًا عن راحة لم أذق طعم لها، ولم أتنعم يومًا بها، لا لشيء غير ما قد حكوا لنا عنها، فالراحة دائمًا هناك، والسعادة دائمًا لاحقة، والباقي دائمًا في الطريق، لكن لا شيء هنا.
رأيت، أن العقبة قد تكون في تصوراتنا عن البيوت، والأحلام، والذكريات، فتركت نفسي سائحًا، بغير عنوان، أبحث عن لا شيء، متمنيًا أن تأتي الصدفة، أو يأتي اليقين.

قد يكون البحث عن بيت له منزلة غير حقيقي، لذا لم آت به، فما تمسكت بشيء غير محاولات الصدق، والبعد عن زيف التصور.

Sunday 10 May 2015

مغرب الآحاد

اقترب اكتمال أربع سنوات على الآحاد الخالية، فقد اخترت، طوعًا، أن يقتصر اسبوعي على ستة أيام دون سابع، فما حاجة يوم آخر من حالة طالما عبرت عنها باسترسال!. ينقص من العمر يومًا كل اسبوع، يمر بلا رتم أو نظم يحكمه. تتكاثر طرق مضي الوقت حينها، مع تدريب، كرهبان الجبال، على ضبط النفس وعد الأنفس واحدًا تلو الآخر.. حتى نستطع تمييز خمسة. خمسة أنفاس، لا أكثر، غير مفتقد لمزيد، مقتصد بما حصدت.

العمر والزمن، رزمانة السنة، ومرات إحساسك بالأهمية. كلها أدواتنا كي نقيس وقتٍ ثَقُلَ مضيّه. الأخيرة هي أكثرهم وقعًا، وأعلاهم صدًا. الأخيرة تملك سحر طي الزمان، وتوطيد العلاقات، كائنًا ما كانت. الأخيرة، هي ما تعد أهليتنا بكوننا آدميين مخلوقات صُبغت طبيعتها كي تكون متجاوبة، مشاركة، متشابكة الأطراف بين المشاركين. الأخيرة، تُفقد حين غرة، وتأتي صدفة، ونأسف على رحيلها، بعد أن كانت هي من ترسم ملامح الطريق.

قد اخترت.. طوعًا. كلمة تنبء عن فعل ما كنت فاعله، بل صرت مع الوقت مستقبله الوحيد. طوعًا، تضفي لونًا من التحكم الزائف، غير أن الحقيقة تكمن في اختيار السيء لا الأسوأ. كمن اقتص من اسبوعه يومًا، فقد اجتزع من معارفه أغلبهم.

رفض الواقع، أم كراهيته؟.. فما الرفض ينتهي عند استنفار من اضطررت أن تجده حولك، وما الكراهية تقف حدودها عند عزل النفس عن المكروه. وما حال من كره اسمه؟ وما حال من لم يتأقلم على مسارات فكره؟ كمن جُبِلَ على الانفصام، فما عرف يومًا وحدة النفس واتساقها. وما حال من أراد يومًا التغيير، دون وجهة؟ وما حال من رفض حال العبيد، وهو مكلول؟ وما لسان من زهد الكلام، لما ما لم يجده من طائل؟ وما حال من استلزمته غصة وحقن من مفردات حياته؟

الله، المنطق، وكتاب مرسل... أقف حائرًا بين التعريفات.

الحق، الخير، والجمال.. أهم كالعدل؟ معانٍ مؤجلة، أم هم ترانيم أم لأبناءها المرتعدين؟

لم أغلب العجائز منكسرين؟ لم نخلط الضعف بالحسرة، باكتشاف مُرٍ لن يحكوا لنا عنه؟

الآحاد هي أكثر أيامي فضًا، وأكثرها بعلامات الاستفهام. اكثرها اقترابًا لنفسي، وما أكره.. فأصبحت أبحث عن استعادة يومي المنقوص، واكتمال الاسبوع تلو الآخر. ولكن.. كما يقولون.. هيهات.

Sunday 3 May 2015

استرسال

مزج أول: 
المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " .. فلم يمت ,
وظلّ روحا أبديّة الألم 
 لا أعلم إن كانت النهايات تصبغ حالة من الضمور على شاهديها، أم تطبع رؤية الأمور على حقيقتها، فيرسل لنا من يعاصروها نفحات صور النهايات، محذرين تارة، ومطلقين العنان لما في صدورهم، لا لشيء غير البحث عن مواساة متوارية، خاجلي الطلب، مُعليين الكرامة.

لا أتذكر من صارح الباقيين برؤيته لنهاية تشع نورا. نوعًا ما لا أصدقهم، فإما قد غلبهم التعب، أو غلبهم مراعاة ذويهم. أرى توصيف النهايات بالغمام عند كل من صار الوصف صنعته، فلا يقدر على مداراة - ما يراه حقيقة حينها - الوصف كما هو، غير مبالين بالآخرين. النهايات المشرقة تجذب الصغار، كاتبي الروايات. أن شئت دليلًا على هذا، فراقب ردود أفعال الناس حين يرون نهاية مفتوحة ولا أقل نهاية واقعية، أو نهاية كما ذكر "أمل" أو "درويش" في أواخر عهدهم. النهايات غير المصاغة تزعج العامة، فلا أحد يريد إزالة غض الطرف عن حلاوة ما تبقى، ممنّين أنفسهم بدوام أفضل عن من سواهم.

أستطيع توقع انزعاج من صادفه حظه، وإصراره إلى حد كبير، ممن يقرؤوا تلك الكلمات الآن، ولكن ما من مفر عن الحقيقة، غير حياكة لباس الزيف عليها.

( مزج ثان ) :
معلّق أنا على مشانق الصباح
و جبهتي – بالموت – محنيّة
لأنّني لم أحنها .. حيّه !
... ...
" سيزيف " لم تعد على أكتافه الصّخره
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق
و البحر .. كالصحراء .. لا يروى العطش
لأنّ من يقول " لا " لا يرتوي إلاّ من الدموع !
.. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهون مثله .. غدا
و قبّلوا زوجاتكم .. هنا .. على قارعة الطريق
فسوف تنتهون ها هنا .. غدا
فالانحناء مرّ ..
الله . لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا !
و الودعاء الطيّبون ..
هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنّهم .. لا يشنقون !
 يا من يعرف نهاية المدى أخبرنا، أرنا الهداية، غير مُختبَرين، كي نعبر للوجهة الأخرى، آملين بعنبر يفوح بين الطرقات، وحدائق تغلف التفاصيل، وراحة أُخبرنا بها غير مُجربين.

الوقت، الابتلاء الأعظم لمن هم سوانا، الاختبار الأكبر لكل العاندين. الوقت يهزم ولا يُهزم، يكسر أعناق من يجاهدون أنفسهم للخروج من سياق ما كانوا يومًا راسميه. الوقت، مع غلبته، يجبر المتكلم على السكوت، فما من طائل من الكلام، وما من حصاد للمُضي، فلنترك الناس كما هم، فالأفعال تتكرر، والأفكار تتواءم، ولا أحد يعبأ بمجنون، وحتى الشفقة تنتهي لحالها بعد حين. الكلام بلا طائل، فما من مفر عن مجاراة الأغيار، وإرساء قواعد المتاح حتى لا يخرجوا عن السرب. ولنكتفي نحن، المنتهون، بالمشاهدة .. في صمت .. فلا جدوى من إزعاج، ولا منجى من إغراق، ولا أمل من تغيير المسار.